كلما كبرت سنة، كبرت قناعتي بأنّ الله قد خلق الجنس اللطيف من خلاصة التدبير والشفافية والفطنة والذكاء الفطري. إنّ الرجل قد يصبح ذكياً ومدبراً بالممارسة، وقد لا يصبح. أما المرأة فإنّها ذكية بالولادة، وأقصد بالذكاء تلك الحاسة التي تجعلها تعرف ما يفيدها وما لا يفيدها في هذه الحياة. ولا أبالغ حين أقول إنني صادفت، في منعطفات تجاربي، نساء داهيات (من الدهاء لا من غيره)، لذلك يبدو تعبير "الجنس اللطيف" مزحة تبعث على السخرية وتستدعي الرثاء.
في بداية حياتي الصحافية، ذهبت إلى إجراء مقابلة مع كاتبة سورية ذات باع في دنيا الأدب. وأذكر أنني سألتها عن الشخصيات الرجالية في رواياتها، فقالت لي وهي تبتسم إبتسامة غامضة: "أنا أترفق بالرجل عندما أكتب.. لأنّه الأضعف". وظننت أنني أخطأت السمع، أو أنها أخطأت في العبارة، لكنها كررتها مرة ومرتين، وهي تواصل إبتسامتها الغامضة والماكرة. ولم أفهم، يومها، كيف يكون الرجل كائناً ضعيفاً مقارنة بالمرأة، لكن الزمن لم يمهلني طويلاً حتى فهمت.
أتفرج على العشرات من معارفي، من طراز "سي السيد"، يسيرون شامخين في الأسواق والطرقات، ثمّ يسوقون سياراتهم إلى بيوتهم ويدخلون وهم يخشخشون بالمفاتيح للإعلان عن وصول "القائد المظفر". ثمّ يخلع الواحد منهم ثياب العمل ويرتدي ثياب النوم ويجلس ليتعشى مع زوجته وأولاده، فإذا كل شيء يسير حسب مشيئة الزوجة، فهي التي تدير البيت وتقرر ما تراه مناسباً من مصاريف، وهي صاحبة الكلمة المسموعة لدى الأبناء، ومن دون نظرتها الصارمة يختل النظام ويسرح كل واحد على حل شعره. كل ذلك وهي هادئة، تبتسم لشريكها وتوهمه بأنّه سبع الدار، وتقدم له اللقمة الشهية وتأخذ منه كل ما تريد.
أعرف من أقربائي من يرفع صوته، أو يرفع يده، على زوجته ولا يأخذ بأي رأي من آرائها، بل يتعمد أن يخالف ما تريد. لكن، مع مرور الوقت، أكتشف أن صوته العالي كان قنبلة صوتية وأنّ الذي أرادته المرأة هو الذي تحقق في الواقع. ولحسن حظ الرجال أنّهم ضعيفوا الذاكرة. ولحسن حظ النساء أنهنّ ذوات نفس طويل، وما لا يمكن نيله اليوم، سيصبح في اليد غداً، أو بعد غد على أكثر تقدير.
في طفولتي، كنت أسمع الوالدة تحدثنا عن لطفية العامية (العمياء) التي تسكن مع زوجها وأولادها في البيت الأصفر الواقع في آخر شارعنا. كانت تقول إنّ لطفية برعت في صناعة "المهافيف"، أي المراوح اليدوية المظفورة من سعف النخيل، وذلك رغم عجزها عن النظر. ولم يكن في مقدور من يراها وهي تنسج المراوح، أن يظن أنها عمياء. فقد كانت أصابعها تتحرك بسرعة ومهارة، وكأنّها تملك عشر عيون. والحكاية ليست هنا، بل في أن لطفية كانت تبيع مراوحها في السوق القديم وتدخر نقودها إلى أن تمكنت من شراء البيت الذي تسكن فيه. أما زوجها فلم يصدق أنها جمعت كل ذلك المبلغ من عملها البسيط، لذلك فقد عاش يعشقها ويعشق التراب الذي تدوسه قدماها.
تلك حكاية قديمة لم تعد تصلح لهذا الزمان. أمّا نساء اليوم فإنهنّ ذوات أعين مفتوحة على اتساعها، وهنّ يسافرن ويدرسن ويجلسن أمام الفضائيات وشاشات الحاسوب بالساعات، ولم يعد في وسع أكثر الرجال حيلة أن يستغفل أقل النساء فطنة. ثمّ إنّ الواحدة منهنّ تتسلح من تجارب الحياة بالصبر، وبالمداهنة، وبسماحة الحليم عندما يعطف على ذي الحاجة. والمرأة تدرك أنّ هذا عصرها وأنّ الزمن يدور لمصلحتها. وهكذا فإن الرجل ليس وحده من يحتاج إليها، بل الكون كله.
يغفو الرجل الحديث وهو قلق على عمله، وعلى تجارته، وعلى أقساط للبنوك، وعلى شرايين قلبه وقدراته التي يفتك بها الإجهاد. وتغفو المرأة سعيدة بما حققت، واثقة بغدها، مستظلة بالتزامات الرجل النائم إلى جوارها، أو بالرصيد الذي ورثته عن أبيها، أو بأبنائها الذين لا يطيقون الإبتعاد عن ذيل ثوبها. إنّها واهبة السعادة والحنان والنظام والنظافة. ومن حق من يهب أن يتقبل آيات الشكر والعرفان.
ماذا يفعل الجنس الخشن بهذا الخشونة التي صارت جنحة يعاقب عليها القانون الدولي؟ حتى منظمة الأُمم المتحدة لم تعد تجد حرجاً في إنحيازها إلى جانب المرأة، والحجة هي إنصاف النساء بعد عقود من الإجحاف. وإذا تقدم رجل وإمرأة لوظيفة واحدة فإنّ الأرجحية للمرأة في دوائر الأُمم المتحدة ومنظماتها كافة. وأنا لست بحاسد، بل معجب ومصفق ومشجع وداعٍ لها بالمزيد مادامت احتملت عنجهياتنا منذ بدء الخليقة حتى اليوم. من غيرها يحتويني ويلملم شتاتي ويطبطب على نرجسيتي ويبادلني الحب ويسقيني الدواء ويلهمني كتاباتي؟ إن كل يوم من أيام السنة يصلح عيداً للأُم ويوماً عالمياً للمرأة.. ياسمينة حياتنا.